Friday, March 18, 2011

ثورة فكر أم أزمة فقر

في القول المأثور كيفما تكونوا يول عليكم تحديد واضح و مسار لائح لاتجاه المبادرة الإصلاحية ، و أنها لا يمكن أن تنطلق إلا من الشعب باتجاه الحاكم ، و من حاول أن يعكس المسار فلقد غر نفسه و ضيع جهده ، لا يمكن لأي حاكم في العالم أن يرقى بأخلاق شعبه .. و إنما الشعب الخلوق يفرز حاكما من جنسه ، و لا يمكن لقائد كائنا من كان أن يخلق شيئا من العدم ، فإذا كان النبي نفسه عليه أتم الصلاة و السلام يقول: "إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق" ، مما يدل على أن الأخلاق في أصلها و جوهرها موجود و إنما الغرض جاء كي يخرجَ بها إلى غايتها في الكمال و منتهاها في الجمال ، و ما شوقي عن هذا المعنى بمنأى عندما عمد أيضا إلى أسلوب الحصر في نظم بيت الشعر: إنما الأمم الأخلاق ما بقيت ... فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا ، ليؤكد بما لا يقبل الرد أو الطعن ما أكده الرسول الكريم من قبل

من يَعشِ الحاضر و يقرأ الغابر يعلم تمام العلم و يعرف حق المعرفة حجم الأزمة الأخلاقية التي تحياها المجتمعات العربية ، وإن كانت الفجوة العلمية أو التكنولوجية أو العسكرية بيننا و بين الغرب قد اتسعت بما لا يدع مجالا للقفز فوقها ، فإن الفجوة الأخلاقية أشد عمقا و أكثر اتساعا ، و لايمكن لأي نظام أو حاكم أن يرأب الصدع الأخلاقي الذي تعانيه هذه الشعوب ، و في حال سلمنا جدلا بقول من يقول أن الحاكم مسؤول مسؤولية كاملة و مباشرة عن أخلاق شعبه ، فإننا في هذه الحالة نبحث عن مُربٍّ و لا نبحث عن حاكم ، و من الإجحاف و قلة الإنصاف أن يُطلب من المربي تربية شعب بأسره في فترة زمنية محددة ، في حين لايخفى على أحد حجم وكم الجهد والوقت اللذان تتطلبهما العملية التربوية حتى تُؤتيَ أكُلها و تُقطفَ ثمارها ، و حينئذ يكون جثوم الحاكم على صدر شعبه أعمارا عديدة و سنينَ مديدة ما هو إلا طلب ضمني من الشعب نفسه ، لذلك وجب علينا أن نضع هذا الهراء جانبا و نلتفت لأنفسنا و نبحث في ذواتنا ، يقول سبحانه و تعالى في كتابه العزيز مُخبرا عن فرعون: "فاستخف قومه فأطاعوه" ، الأمر الذي يؤكد أن المسؤوليه الحقيقية يتحملها الشعب لا الحاكم ، و كثيرا ماساوى الخطاب القرآني بين المُستَضْعِفْ و المُسْتَضعَفْ ، و في ذلك يقول عز من قائل: " قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ" نخلص إلى أن حجة الاستضعاف حجة مردودة لا تَنهض و لا يُنْهَض لها بنص القرآن الكريم

يقول الرسول عليه أفضل الصلاة و السلام: "كلكم راع و كلكم مسؤول عن رعيته" ... الرعاية في اللغة تعني الحفاظ ، و الراعي هو الحافظ ، فقبل أن نطلب الراعي علينا أن نوفر له ما يرعاه ، و ما يستحق أن يُعْكَف على تطويره و إنمائه ، و لكن أن تتم البيعة على شيئ غير موجود أساسا فما هذا إلا في سوق المجانين

تغيير حاكم هنا أو هناك لا يعني الكثير ، بقدر ما يعني الإدراك أين نسير ، التغيير الحقيقي يبدأ من الفرد نفسه بعيدا عن شماعة الحاكم و غيره ، قد آن الأوان كي ننظر للحاكم على أنه نتيجة و ليس سببا ، و آن الأوان أيضا كي نتعامل مع الحاكم على أنه موظف عند الشعب ليس إلا ، و لكن أي شعب ؟ هل هو شعب عمر بن الخطاب الذي قال لو رأينا منك اعوجاجا لقومناك بسيوفنا؟ أم أنه شعب مهيأ مسبقا و معد سلفا و مكيف تمام التكيف و جاهز أتم الجهوزية بما تمليه عليه ثقافته و أخلاقياته للتعامل و التعاطي مع أي نظام فاسد؟ لتبق القضية في النهاية قضية حظوة ، فالمستفيد من النظام يغنم و ينعم ، في حين غير المستفيد يشتم و يلعن

ملاحظة: هذا المقال تم نشره في جريدة الوطن يوم الأربعاء الموافق 2011-03-16

Friday, February 11, 2011

حقيقة الإصلاح

حتى هذه المرحلة العمرية ما زال ذهني قاصرا عن استيعاب مفهوم الحرية ، فكم أحلم بالقعود إلى شخص يفسرُ لي هذا الذي يقولون : حرية تعبير و حق مشاركة و تعددية سياسية و حزبية ، كم أنا تواق إلى شخص يتلطف بعقلي البسيط و يأخذ بي الهوينا في مسالك و دهاليز الشعارات الأممية و المطالبات الشعبية ، لأنني و بصراحة عندما أقف أمام هذه الشعارات أقف أمامها وِقفة الضائع الحائر ، لا أعي ماذا تعني و لا أفهم إلاما ترمي 

ولئن سهل الله العزيز بلطفه و صادفتك أيها الشخص الكريم وجلسنا أنا و أنت ، و شَرَعْتَ حضرتكُ و هَمَمْتْ ، في الشرح و السرد ، و الأخذ و الرد ، فأرجوك رجاء الظمآن و أدعوك دعاء اللهفان أن يكون شرحك خاليا من الكلام ... إذا أردت مخاطبتي فاستغنِ بالإشارة عن العبارة ، واكتفِ بالإماءة عن المقالة ، حتى و إن دخلنا في حوار خرسان فإنه عندي أجدى و أنجى من كلام استغلقت عبارتُهُ ، و استعجمَت كلمتُهُ 

إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر ... إن كنت سأسمح لك بهذا القدر من الكلام ،فلمجرد أن يأخذني الخاطر في البحث عن من هو الشعب ؟ من هو الشعب الذي يستحق الحياة ؟ هل هو الشعب الذي انتهز فرصة غياب الأمن ليعيث في الأرض فسادا ؟ أم هو الشعب الذي وجد الفرصة مواتية كي يستقل طائرة من دولة أجنبية و يحط في بلد ثار به الجوعان و العريان فيتسلق على أكتافه عرش الرؤساء والحكام ؟

لا ينكر من كان لديه مسكة من عقل حجم الظلم الذي تعيشه بعض الشعوب العربية و المرارة التي تتجرعها و الألم الذي يتكبدها ، نعم قد يكون النظام الحالي يسرق من جيبي و يشاركني قوتي و قوت عيالي ، إلا أنني ما زلت قادرا على التعايش معه ، أملا في الإصلاح و طمعا في التغيير، و إن لم يكن هذا و ذاك فهو ما تعودناه و ألفناه حتى يقضيَ الله أمرا كان مفعولا ، أما النظام الذي لم و لن أرضى أن يحكمني ساعة من نهار هو ذلك النظام الذي يأتي ليسرق من عقلي لا من جيبي ، أنا أقبل أن أعيش في مغارة علي بابا بين اللصوص و سراق المال العام ، و لكن لا أقبل أن أعيش أبدا في كنف مجموعة ترى فيما يميزها عن الأتراب و النظراء وسيلة لقود العامة و الدهماء ، فلأن  يُقاد الإنسان بالآلة العسكرية رغم أنفه لهو أرحم آلاف المرات من أن يقاد بالخديعة الفكرية دون علمه

العلم هو ما ثبت بالتجربة العملية ، و العلم الذي جاءني بالنزول إلى الشارع العربي أنه و باختصار شديد ثقافة الرأي و الرأي الآخر لا وجود لها في هذا الجزء من العالم ، سواء كان هذا على مستوى الحداد و النجار و نافخ الكير ، أو حتى على مستوى الأستاذ و الدكتور و العالم الكبير ، و إن كان هناك من يدعي فاسمحوا لي أن أقول لكم أن أساليبكم علي لا تنطلي .. أقل ما يمكن أن يقال في حق الحكام الحاليين أنهم عاشوا ردحا من الزمن في بروجهم العاجية بعيدا عن الطبقة العامية ، فعرض لهم شيئ من الطهور و النقاء ، بعدما نأوا بأنفسهم عن الشارع العام الذي تمارس فيه أبشع و أشنع درجات الاستبداد و تكميم الأفواه بين أفراد الشعب نفسه ، فكيف لي أن أستل من وسط هذه الشعوب فردا موبوءا أوليه أمري كي يعودَ بي القهقرى ، و كيف لي أن أنفق عليه من سِنِيِّ عمري إلى أن يبرأ من خبثه و يتعافى من درنه ، ومن كان ينكر هذا الكلام أو يعيبه عبثا فلا يسعني أن أقول له إلا أن يركب مركبته الفضائية و يرجع إلى الكوكب الذي أتى منه. في حين أترك المجال أمام الفيلسوف العظيم أبي العلاء المعري ليقول كلمة الفصل في هذا المقام الذي عرى به النفس البشرية و كشف حقيقتها و هتك حجابها و أزال قناعها ، بعدما فقد بصره فاستضاءت بصيرته

ومالـي لا أكون وصــيً نــفسي ... ولا تعصي أموري الأوصياء

وقـد فــتشـت عـن أصـحـاب دين ... لهم نسك وليـس لهم ريـــاء

فألـفــيــت البــهــائــم لا عقــول ... تــقيــم لها الدليل ولا ضيـاء

وإخوان الفــطــانــة في اختيال ... كــأنــهــم لقـــوم أنـــبــيــاء

فــأمــا هــؤلاء فــأهــل مـكــر ... وأمــا الأولــون فأغــبــيـــاء



Sunday, January 16, 2011

من أقوال السيد الرئيس

لقد شغلت هذه العبارة حيزا كبيرا في حياة الشعوب العربية إبان فترة ما بعد الاستقلال ، فعاشت الشعوب في ظلال معانيها سنوات عديدة و أعمار مديدة ، كان لها الأثر الأكبر في تشكيل ثقافتها و تحديد هويتها ، و لعل السببب في ذلك يرجع إلى طبيعة الظروف التي صاحبت تلك الفترة ، و الأحلام التي تزامنت مع ميلاد هاتيك العبارة. إلا أنه بعد فترة ليست بالبسيطة بدأت الآمال تضمحل و الأحلام تتلاشى ، ليتلاشى معها آخر حرف من حروفها ، في الوقت الذي غاب عن عقول الناس معناها و غار في نفوسهم مبناها ، لتبقَ نُصْبُ الزينة و الجدران القديمة هي الحاضن الوحيد لها

و لا عجب في ذلك و لا غرابة إذ أن سنة الحياة تفرض التغيّر و تقضي بالتطور ، و ما كان صالحا بالأمس ما عاد صالحا اليوم ، فكما يقال: لكل وقت أذان

و لكن يبدو أن بعض الناس في الكويت شعروا للتو أنهم ضيعوا نصيبهم من تلك الحقبة المنصرمة ، فانتشروا من رقادهم هلعين فزعين باتجاه آلة الزمن ، فدخلوها بمحض إرادتهم و مطلق حريتهم ، ليرجعوا بأنفسهم عشرات السنين إلى الوراء علّهُم يعثروا على بطل يكون حقيقا بحمل لواء تلك العبارة المهجورة ، و أحْسَبُهُم قد وجدوا ضالتهم ، بعدما اللتفوا حوله متلقفين أي لفظ يتاطير من فمه أو كلمة تتبادر إلى ذهنه ليزجوا بها في قالب من أقوال السيد "فلان الفلاني" ، فيستعيدوا بذلك أمجاد ثقافة مهترئة و عقلية منقرضة عفا رسمها واندثر أثرها

إن الشعب الكويتي على اختلاف فئاته و أطيافه شعب حر أبيّ كريم ، ينأ بنفسه عن هذه المسرحيات الهزلية ، و يرفض تمام الرفض أن يجسد أي دور من شأنه أن يسيئ إلى فكره أو وعيه أو إدراكه ، كما أن هذا الشعب الطموح المتحضر قادر على تصحيح مسار أي شخص انحرف عن الجادة أو حاد عن الطريق ، ليتحقق بهم مفهوم الحديث النبوي الشريف انصر أخاك ظالما أو مظلوما

Tuesday, January 11, 2011

ضحايا التصفيق

على الرغم من بساطة هذه الحركة وعَفَوِيتها ، و أعني بالحركة هنا "التصفيق" إلا أنها كانت سببا في هلاك الكثيرين عبر التاريخ السحيق ، و أعجب حقيقة عندما يقع الخطباء و أصحاب الندوات و المحافل أو حتى الإعلاميون المخضرمون في شرك التصفيق هذا ، و إن كانت الجريمة مقسومة بين المُصَفِّقِ و المُصَفَّقِ له ، إلا أن الوزر الأكبر من مغبة التصفيق يتحمله الخطيب أو المتكلم ، و ذلك أن الجماهير الغفيرة و الجموع الوفيرة يصعب تقييمها ، إذ يندس في صفوفها العديد من عامة الناس و بلههم و دهمائهم ، الأمر الذي يجعل من مهمة الخطيب مهمة أكبر و أصعب ، إذ يتحتم عليه أن يتجاوب مع الحضور تماما كما المغني مع الجمهور ، مع الأخذ بعين الاعتبار الفارق البسيط بينهما ، إذ يُشرع للمغني على خشبة المسرح أن يقوم بقفزات هوائية و حركات بهلوانية يستطيع من خلالها أن يلبيَ اندفاع الجمهور وحماسه ، في حين أن الخطيب لا يستطيع أن يقوم بما يقوم به المغني حتى يتفاعل مع تصفيق حضوره ، الأمر الذي يضطره إلى زيادة الجرعة الكلامية و رفع وتيرة الخطاب و الانتقال إلى المفردات الأكثر حدة ، بما يخلق جو من الانسجام و التناغم بين عدد التصفيقات و سيل الكلمات ، و هلم جرا على مبدأ زيد يا يزيد

و مع ازدياد حرارة التصفيق يدخل الخطيب في حالة من اللاوعي ، و عند هذه اللحظة يُفقد العقل القائد في هذا المقام ، فيسود الهرج و المرج ، و يحل الخبط الخلط ، إذ أن الجماهير مغيبة مسبقا ، و الخطيب تم تغييبه لاحقا ، و عند هذه اللحظة أيضا يضطرب الميزان عند الخطيب ، فتعلو كفة الجماهير فوق المصلحة الشخصية للخطيب بدرجة كبيرة ، و هذا الاختلال الصارخ في موازين المصالح بين الفرد و المجتمع هو الذي جمد المجتمعات الإسلامية و العربية عقودا طويلة ، فإما فرد يسخر الناس و يستعبدهم لمصالحه الشخصية ، و إما فرد يقدم نفسه قربانا للناس ليلبيَ نشوة ساعة و يغدوَ من بعدها نسيا منسيا ، و الذي يشكك في هذا الكلام فليرجع إلى التاريخ ليرى كم من رجال علَوَا بخطاباتهم أسنان الرماح و من ثَمَّ ذهبوا أدراج الرياح ، فخسرهم الناس و خسروا أنفسهم وذلك هو الخسران المبين

وليعلم القارئ الكريم أن التصفيق في الشريعة في أحسن أحواله محمول على الكراهة ، بل أن البعض ذهب إلى تحريمه ، و التسفيه من شأن التصفيق واضح بنص القرآن الكريم ، إذ يقول سبحانه و تعالى واصفا المشركين : "و ما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء و تصدية" ، و التصفيق من خوارم المروءة ، و قد دل على هذا المعنى الحديث الشريف "من رابه شيئ في صلاته فليسبح و إنما التصفيق للنساء" و كان السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين إذا استحسنوا شيئا سبحوا الله أو كبروه ، و لم يكن من عادتهم التسبيح أو التكبير الجماعي ، مما يؤكد على أن أدنى درجات الحماسة و الغوغائية و الفوضى مرفوضة و مردودة في هذا الدين الحنيف

الذي يقرأ القرآن الكريم قراءة واعية ، و يعرض السيرة النبوية عرضا موضوعيا ، صدقوني لن يجد للحماسة مكان أو يعثر لها على تُرجمان ، بل سيجد أن الهدوء و السكينة و التخطيط و التكتيك بكل أنواعه وأشكاله هو الذي كان سائدا على تلك الحقبة الذهبية من حياة الأمة الإسلامية ، و ما ضلت الأمة و ما تراجعت و ما سفلت و ما انحطت إلا بعدما طغت الشعارات و علت الخطابات واصطف الناس في صفوف المظاهرات

و إن كنت ألتمس العذر لهذه الظواهر السلبية في بعض الأنظمة العربية جراء ما تتعرض له شعوبها من قمع واضطهاد ، فلا ضير أن ينفجر خطيب هنا أو هناك بغية التنفيس أو التعبير عن مدى الألم الذي يُلم بها ، أما في بلد كالكويت فلا أجد لأي من تلك الممارسات غير الناضجة عذرا أو مبررا ، فالكويت دولة مؤسسات .. تنعم بمجلس تشريعي يمارس دورا رقابيا على كل أجهزة ووزارات ورجالات الدولة ، أضف إلى ذلك الوسائل و القنوات الإعلامية الحرة ، ناهيك عن العلاقة الأبوية التي تربط الحاكم بشعبه ، مما يسهل وصول كلمة الشعب إلى أميره ، و في حال أخفق البرلمان بأداء دوره الرقابي أو التشريعي فإن من يتحمل هذا الفشل هو الشعب نفسه ، و في حديث "كيفما تكونوا يول عليكم" خير ختام و أبلغ شاهد على هذا الكلام ، و إن كان الحديث ضعيفا إلا أن معناه يبقى حقيقيا قويا

Monday, November 8, 2010

الي بقلبي على لساني

غالبا ما تُستخدم هذه العبارة عندما يشرع شخص ما بذكر سلبياته ، وحصر زلاته ، فيقدمها على أنها أحد السلبيات أو العيوب ، في حين أنني أعلم تمام العلم ، و أعرف حق المعرفة أنه في قرارة نفسه يراها إيجابية ، بل و يجدها علامة على القوة و الجرأة ، و لو كان يعتقد حقا خلاف ذلك لما اعترف بها بهذه البساطة ، و لتبرأ منها براءة الذئب من دم يوسف ، لأنه لا يوجد إنسان طبيعي على وجه البسيطة يقول عن نفسه أنه غبي أو جبان أو ضعيف هكذا بمناسبة و غير مناسبة ، لأنها أوصاف مقززة و نعوت منفرة ، حتى و لو كانت بالفعل سمة بارزة في شخصيته ، فالإنسان بطبيعته يحب التحلي باسم الفضيلة و إن خالف ذلك بلسان حاله أو مقاله

ولكن الحال مع أصحاب "يلي بقلبي على لساني" مختلف بعض الشيئ ، إذ أن عامة الناس لا يدركون مدى بشاعة هذه الخَصْلَة ، و يتوهمون أنها تُظهرهم بمظهر القوي الجريئ ، في حين أن الحقيقة عكس ذلك تماما ، فما هي إلا دلالة دامغة على البساطة و السذاجة ، و الاعتراف بها بفم ممتلئ ما هو إلا مؤشر واضح على أقصى و أحط دركات الغباء الاجتماعي

و المصيبة الأكبر أن حملة هذا الشعار إنما يَتَحَرونَ في ذلك المصداقية و الأمانة في التعبير عن الرأي ، مع جهلهم أن الرأي لا يكون رأيا إلا إذا طُلب ، تماما كما جاء في الحديث الصحيح: أن المستشار مؤتمن ، و أضف إلى ذلك أن الرأي في ذاته ينقسم إلى مهم و غير مهم ، فمن الآراء ما يحتمل المجاملة ، و منها ما لا يحتمل ، فمن كان لديه مسكة من عقل عرف أين يفصل برأيه و أين يحتفظ به لنفسه ، و لو تأملت حال هؤلاء الذين يتبجحون بسرعة إنفاذ الرأي لرأيت أن جُل آرائهم لا تنصب إلا حول سفاسف الأمور و توافه الأحداث ، فيما لا يجلب منفعة و لا يدفع مضرة

و مما يُستأنس ذكره في هذا المقام أن رجلا قال لمعاوية: ما رأيت أنذل منك ، فرد معاوية: النذل من واجه الرجال بهذا... في الحقيقة رأي لا يصدر إلا من حقير ، و جواب لا يأتي إلا من أمير ، و تأمل أخي الكريم جواب معاوية رضي الله عنه حيث أنه لم يدفع هذا الاتهام أو ينفيه ، و إنما لقن ذلك الرجل درسا في مفهوم النذالة ، فعرفه أن النذالة الحقيقية إنما تكون بمواجهة الرجال بهذه الصورة التي تفتقر إلى أدنى أدبيات و أبجديات الخطاب الإنساني و الاجتماعي ، و لاحظ أيضا أنه قال: الرجال و لو يقل الأمراء ، لأنه من جهل أقدار الناس و مقاماتها فهو بحقيقة نفسه أجهل

و مما يروى أيضا أن أحد الوعاظ أتى الوليد بن عبد الملك فقال له: يا أمير المؤمنين سأعظك عظة فيها غلظة فاحتملها ، فقال الوليد: كلا .. إن الله أمر من هو خير منك بإلانة القول لمن هو شر مني ، قال لموسى إذ أمره بالذهاب إلى فرعون: فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى

و لو تأملت معي أخي القارئ أحوال هؤلاء السُذج لو جدت كَمَّ الخير الكثير و الحظ الوفير الذي فوتوه على أنفسهم بسب أنهم وضعوا ألسنتهم في كل مكان و زمان ، فما غنموا في الدنيا و لا سلموا في الآخرة ، فمسألة أن تجعل لسانك مِغرافا لقلبك فما ذلك إلا البله بعينه ، والحمق بذاته، و في ذلك يقول أبو العتاهية

و إذا حللت عن اللسان عقاله .... ألقاك في قيل عليك و قال

و هل سمي العقل عقلا إلا لأنه يعقل على اللسان ؟ فما فائدة العقل إذا كان لللسان مطلق الحرية في تصوير عُجَرَ القلب و بُجَرَهُ ؟

و لا يسعني إلا أن أختم بقول زهير

و من لم يصانع في أمور كثيرة .... يُضرس بأنياب و يوطؤ بمنسم



Tuesday, October 26, 2010

وجهة نظر


جاء في كتاب "المنصف للسارق و المسروق منه في إظهار سرقات أبي الطيب المتنبي" لمؤلفه إبن وكيع المتوفى سنة 393 هجرية

يقول المتنبي:

من خَصَّ بالذمِ الفراقَ فإنني        من لا يرى في الدهرِ شيئا يُحمَدُ

يقول إبن وكيع:

هذه مبالغة مستحيلة ، لأن الدهر فيه العافية و الشباب و الثراء و كله محمود ، و الإنصاف قول إبن المعتز:

الدهر فيه مساءة و مسرة          فجزاء دهرك أن يُذم و يُحمدا

في حين أن رأيي الشخصي هو الآتي:

الامتعاض من الدهر حالة نفسية بحتة ، و لا يشترط أن تُعزى إلى أي من الأسباب الدنيوية ، فليس الفقر و السقم من دواعي التذمر من الحياة و حسب ، و إنما قد يكون الغنى و طول السلامة  أدعى إلى هذا التذمر ، و مصداق ذلك قول أبي تمام في الميمية: 

سئمت تكاليف الحياة و من يعش                ثمانين حولا لا أبا لك يسأم

أي بمجرد أن يمتد عُمُر الإنسان بهذا القدر من السنين فهو بحد ذاته دافع إلى التململ و الرغبة في التحول
هذا من جانب ، أما من جانب آخر فقد يصيب الإنسان صائب يحمله على مذمة الدهر بأسره ، و كأنه لم ينعم فيه و لم يهنأ ، لشدة ما أصابه و جسامة ما نزل به ، و خير مثال على ذلك مريم عليها السلام عندما أجاءها المخاض إلى جذع النخلة فقالت: يا ليتني مت قبل هذا و كنت نسيا منسيا ، لأن جل تفكيرها في تلك اللحظة انصب حول شرفها الذي بات مهددا لولا أن العناية الإلهية كانت قد كفلت لها عفتها و كرامتها

إن التعامل مع البيت بهذه الصورة من المعادلة الحسابية هو تعامل سطحي و غير صحيح ، و إن كانت فكرة المؤلف حقيقة في ذاتها ، إلا أننا نقول: أن لكل مقام مقال ، و لا أعتقد أن مقام المتنبي في تلك الساعة كان يسمح بما ذهب إليه إبن المعتز ، تماما كما جاء في الحديث الصحيح: أنه في الآخرة يُؤتى بأكثر أهل الأرض نعيما في الدنيا ، فَيُغمس غمسة واحدة في النار ثم يُسأل: هل رأيت نعيما ؟ فيجيب: ما رأيت نعيما قط ، فقد يحصل لأهل الأرض ما يحصل لأهل الآخرة من يأس و قنوط ، لهول ما حل بهم ، مع فارق التشبيه و المقارنة  

لذلك أرى أن المؤلف ما وفق إلى نقد هذا البيت للمتنبي ، بل أن البيت قد قام على ركن شديد و رمى إلى مراد بعيد ، و مقارنة إبن وكيع بيت المتنبي مع بيت إبن المعتز مقارنة لا تصح ، لأن البيتين سارا في مسارين مختلفين ، وانضويا على معنيين متابينين ، أما بيت المتنبي فيصور قسوة الدهر و مرارته ، في حين أن بيت إبن المعتز دعوة إلى الرضا و السكون ، و يبقى الحَكَمُ في النهاية هو الحالة النفسية لكلا الشاعرين كما سبق و بينت

Wednesday, September 29, 2010

قفا نبك

إن القارئ لمعلقة امرئ القيس يشعر بها و كأنها نُظمت على ريق لم يُبلع و نفس لم يُقطع ، فكانت حرية بأن تُكتب على جبهة الدهر و حقيقة أن تُعلق في كعبة الفخر ، فلم يزل ينظم اللآلئ و يُقرِّط الآذان و يسحر العقول و يخلب القلوب إلى أن ختم رحيق قريضه في بيت جال به رونق الحس و تجلى به بديع الوصف

يقول

كأن السباع فيه غرقى عشية ... بأرجائه القُصوى أنابيشُ عُنصُلِ


أي أن ذلك المطر الشديد المذكور آنفا في القصيدة و الذي هطل بغزارة على أماكن متفرقة من شبه جزيرة العرب فاقتلع الأشجار و هدم البيوت و روع الوعول ، نرى أنه حتى الحيوانات القوية المفترسة لم تسلم منه ، فإذا هو يُغرقها و يقضي عليها. فالشاعر في هذا البيت رسم صورة فناء هذه الحيوانات بأسلوب رائق و لفظ شائق ، عندما شبه السباع بالعُنصل و هو بصل بري ينبت تحت الأرض و لا يظهرعلى السطح منه سوى رأسه ، فتلطخ رؤوس هذه السباع بالطين و الماء الكدر حين غرقت بسيول هذا المطر أشبه بأصول هذا البصل البري


راقني جدا هذا الوصف الرائع وشدني ، لأنني بت أرى الناس من حولي على نفس الصورة وذات الهيئة ، بعدما غرقوا بسيول الأوبئة و الأمراض النفسية ، وانحطوا عن المكارم و سفلوا عن المروءة ، و توارت معانيهم تحت الثرى ، فالناس اليوم غرقى في مستنقع الرفث و الدنس ، رؤوسها التي ظلت طافية على السطح مُلطخة بالوحل و الطين ، و إذا نبشت هذه الرؤوس كشفت لك عن عقول ملوثة الفكر مسمومة الفهم ، و لذلك أصبح سوقها سهلا و ما عاد طوعها ممتنعا ، فكل من تمكن من السير على الأقدام أمكنه و بكل بساطة أن يطأها وطء النعال ، و يتركها مسلوبة القرار معدومة الخيار لا تجيد سوى التبعية و الانقياد ، بعدما ضلت سواء السبيل.. حيث لا تفاضل في منافذ الخلاص.. و إنما الغرق أكثر و أكثر في دركات التخبط و الظلام ... فوسط هذه الأرض الموحشة لا أراني أملك سوى أن أبكي و أستبكي على أطلال معانٍ بائدة و أخلاق سلف دارسة عفا رسمها واندثر أثرها