ما من كتاب أُلِّف ، أو مُجلد صُنِّف ، أو كلام رُصِّف ، أو مقالة خُطَّتْ ، أو فكرة بُثَّت ، إلا و هي تعبر عن صاحبها ، و تحكي ماضِيَهُ و حاضِرَهُ ، و تُصوِّر نشأته و منبته ، و ترسم شخصه و ملامحه ، فعجبا عجبت لمن يقول ، انقد الفكر و لا تنقد الشخص ، فأنت بالفكرة غني لا بصاحبها مَعْنِيُّ ، بالله عليكم ما هذا الهراء ؟ هل أقول هي كلمة حق أريد بها باطل ؟ أم أنها ضلالة قائل ، و جهالة جاهل ؟ فلا كتاب مهما عظم أو حَقُرْ ، و لا مقال مهما صَغُرَ أو كَبُرْ ، إلا و عليه بصمة وراثية ، تشير إلى كاتبه ، وتدلل على صاحبه ، فتنشر أخباره ، و تذيع أسراره ، و تسبر أغواره ، كاشفةً القناعَ عن خبايا نفسه ، هاتكةً الستارَ إلى خفايا عهده ، لتستبين للفَطِنِ حقيقته ، و تتجلى للكَيِّسِ سريرتُهُ
و خذوا عني رحمكم الله هذا المثال الصادق الناطق ، فلو قلنا : أن امرأة تكتب عن الرجل بأسلوب شنيع فظيع ، تترفع عنه و تُنفر منه ، و تصوره على أنه ذلك الشيطان الرجيم ، من جانبه سَلِمْ ، و من فارقه غَنِمْ ، فإذا أخذ المجتمع بكلام هذه المرأة على أنه فكرٌ مجردٌ ، و الفكرُ لا يقابل إلا بالفكر كما يقولون ، و ضُيعّت الأوقات في نقاشها ، واستُهّلت المناسبات في حوارها بغية العدول عن رأيها و الرجوع في قولها ، ثم اتضح فيما بعد أن كل ما تتفوه به إنما هو نتيجة تجربة فاشلة تعرضت لها ، و محنة قاسية مرت بها ، كان سببها الاختيار الخاطئ ، و الاندفاع الطائش ، فما هو ذنب المجتمع أن يتحمل مجموعة عقد نفسية ، و رواسب اجتماعية لا ناقة له بها و لاجمل ؟؟
أعتقد أن أي إنسان كائنا من كان قبل المُضي في جداله ، أو الأخذ منه أو الرد ، يجب أن يُمرر على جهاز الأشعة السينية ، لضمان خلوه من الأمراض النفسية ، و الآفات الاجتماعية ، و التأكد من سلامة عقله ، و أنه ما تعرض في حياته لقمع أو اضطهاد ، بل نشأ نشأة سليمة مستقيمة ، فيكون كل ما يقوله إنما نابع من اعتقاد راسخ ، و تجربة صادقة ، مجردة من كل التأثيرات و الانفعالات ، و خير مثال على ذلك الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة و السلام ، فإن الله عز وجل قبل أن يُحمِّله الرسالة أعده إعدادا محكما متقنا استغرق أربعين عاما ، استوفى فيها محمود الخصال ، و كمال الأخلاق ، و تمام المروءة و الرجولة ، ثم قدمه للناس على أنه نبي الأمة ، بعدما عرفوه بالصادق الأمين ، فكان صدقه و أمانته سابقا على فكره و دعوته ، فلم يجعل الله لطاعن فيه علة ، و لا لآخذ عليه مأخذ
أرى أن كل إنسان في فكره رسول ، فكان واجبا على كل مجتمع أن يُحَكِّمَ عقله حتى يَميزَ النبي من المتنبي ... و رحم الله من قال: أن خطأ الطبيب يُدفن في الأرض ، و خطأ المهندس يقع على الأرض ، في حين أن خطأ المفكر يمشي على الأرض