على الرغم من بساطة هذه الحركة وعَفَوِيتها ، و أعني بالحركة هنا "التصفيق" إلا أنها كانت سببا في هلاك الكثيرين عبر التاريخ السحيق ، و أعجب حقيقة عندما يقع الخطباء و أصحاب الندوات و المحافل أو حتى الإعلاميون المخضرمون في شرك التصفيق هذا ، و إن كانت الجريمة مقسومة بين المُصَفِّقِ و المُصَفَّقِ له ، إلا أن الوزر الأكبر من مغبة التصفيق يتحمله الخطيب أو المتكلم ، و ذلك أن الجماهير الغفيرة و الجموع الوفيرة يصعب تقييمها ، إذ يندس في صفوفها العديد من عامة الناس و بلههم و دهمائهم ، الأمر الذي يجعل من مهمة الخطيب مهمة أكبر و أصعب ، إذ يتحتم عليه أن يتجاوب مع الحضور تماما كما المغني مع الجمهور ، مع الأخذ بعين الاعتبار الفارق البسيط بينهما ، إذ يُشرع للمغني على خشبة المسرح أن يقوم بقفزات هوائية و حركات بهلوانية يستطيع من خلالها أن يلبيَ اندفاع الجمهور وحماسه ، في حين أن الخطيب لا يستطيع أن يقوم بما يقوم به المغني حتى يتفاعل مع تصفيق حضوره ، الأمر الذي يضطره إلى زيادة الجرعة الكلامية و رفع وتيرة الخطاب و الانتقال إلى المفردات الأكثر حدة ، بما يخلق جو من الانسجام و التناغم بين عدد التصفيقات و سيل الكلمات ، و هلم جرا على مبدأ زيد يا يزيد
و مع ازدياد حرارة التصفيق يدخل الخطيب في حالة من اللاوعي ، و عند هذه اللحظة يُفقد العقل القائد في هذا المقام ، فيسود الهرج و المرج ، و يحل الخبط الخلط ، إذ أن الجماهير مغيبة مسبقا ، و الخطيب تم تغييبه لاحقا ، و عند هذه اللحظة أيضا يضطرب الميزان عند الخطيب ، فتعلو كفة الجماهير فوق المصلحة الشخصية للخطيب بدرجة كبيرة ، و هذا الاختلال الصارخ في موازين المصالح بين الفرد و المجتمع هو الذي جمد المجتمعات الإسلامية و العربية عقودا طويلة ، فإما فرد يسخر الناس و يستعبدهم لمصالحه الشخصية ، و إما فرد يقدم نفسه قربانا للناس ليلبيَ نشوة ساعة و يغدوَ من بعدها نسيا منسيا ، و الذي يشكك في هذا الكلام فليرجع إلى التاريخ ليرى كم من رجال علَوَا بخطاباتهم أسنان الرماح و من ثَمَّ ذهبوا أدراج الرياح ، فخسرهم الناس و خسروا أنفسهم وذلك هو الخسران المبين
وليعلم القارئ الكريم أن التصفيق في الشريعة في أحسن أحواله محمول على الكراهة ، بل أن البعض ذهب إلى تحريمه ، و التسفيه من شأن التصفيق واضح بنص القرآن الكريم ، إذ يقول سبحانه و تعالى واصفا المشركين : "و ما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء و تصدية" ، و التصفيق من خوارم المروءة ، و قد دل على هذا المعنى الحديث الشريف "من رابه شيئ في صلاته فليسبح و إنما التصفيق للنساء" و كان السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين إذا استحسنوا شيئا سبحوا الله أو كبروه ، و لم يكن من عادتهم التسبيح أو التكبير الجماعي ، مما يؤكد على أن أدنى درجات الحماسة و الغوغائية و الفوضى مرفوضة و مردودة في هذا الدين الحنيف
الذي يقرأ القرآن الكريم قراءة واعية ، و يعرض السيرة النبوية عرضا موضوعيا ، صدقوني لن يجد للحماسة مكان أو يعثر لها على تُرجمان ، بل سيجد أن الهدوء و السكينة و التخطيط و التكتيك بكل أنواعه وأشكاله هو الذي كان سائدا على تلك الحقبة الذهبية من حياة الأمة الإسلامية ، و ما ضلت الأمة و ما تراجعت و ما سفلت و ما انحطت إلا بعدما طغت الشعارات و علت الخطابات واصطف الناس في صفوف المظاهرات
و إن كنت ألتمس العذر لهذه الظواهر السلبية في بعض الأنظمة العربية جراء ما تتعرض له شعوبها من قمع واضطهاد ، فلا ضير أن ينفجر خطيب هنا أو هناك بغية التنفيس أو التعبير عن مدى الألم الذي يُلم بها ، أما في بلد كالكويت فلا أجد لأي من تلك الممارسات غير الناضجة عذرا أو مبررا ، فالكويت دولة مؤسسات .. تنعم بمجلس تشريعي يمارس دورا رقابيا على كل أجهزة ووزارات ورجالات الدولة ، أضف إلى ذلك الوسائل و القنوات الإعلامية الحرة ، ناهيك عن العلاقة الأبوية التي تربط الحاكم بشعبه ، مما يسهل وصول كلمة الشعب إلى أميره ، و في حال أخفق البرلمان بأداء دوره الرقابي أو التشريعي فإن من يتحمل هذا الفشل هو الشعب نفسه ، و في حديث "كيفما تكونوا يول عليكم" خير ختام و أبلغ شاهد على هذا الكلام ، و إن كان الحديث ضعيفا إلا أن معناه يبقى حقيقيا قويا