Monday, November 8, 2010

الي بقلبي على لساني

غالبا ما تُستخدم هذه العبارة عندما يشرع شخص ما بذكر سلبياته ، وحصر زلاته ، فيقدمها على أنها أحد السلبيات أو العيوب ، في حين أنني أعلم تمام العلم ، و أعرف حق المعرفة أنه في قرارة نفسه يراها إيجابية ، بل و يجدها علامة على القوة و الجرأة ، و لو كان يعتقد حقا خلاف ذلك لما اعترف بها بهذه البساطة ، و لتبرأ منها براءة الذئب من دم يوسف ، لأنه لا يوجد إنسان طبيعي على وجه البسيطة يقول عن نفسه أنه غبي أو جبان أو ضعيف هكذا بمناسبة و غير مناسبة ، لأنها أوصاف مقززة و نعوت منفرة ، حتى و لو كانت بالفعل سمة بارزة في شخصيته ، فالإنسان بطبيعته يحب التحلي باسم الفضيلة و إن خالف ذلك بلسان حاله أو مقاله

ولكن الحال مع أصحاب "يلي بقلبي على لساني" مختلف بعض الشيئ ، إذ أن عامة الناس لا يدركون مدى بشاعة هذه الخَصْلَة ، و يتوهمون أنها تُظهرهم بمظهر القوي الجريئ ، في حين أن الحقيقة عكس ذلك تماما ، فما هي إلا دلالة دامغة على البساطة و السذاجة ، و الاعتراف بها بفم ممتلئ ما هو إلا مؤشر واضح على أقصى و أحط دركات الغباء الاجتماعي

و المصيبة الأكبر أن حملة هذا الشعار إنما يَتَحَرونَ في ذلك المصداقية و الأمانة في التعبير عن الرأي ، مع جهلهم أن الرأي لا يكون رأيا إلا إذا طُلب ، تماما كما جاء في الحديث الصحيح: أن المستشار مؤتمن ، و أضف إلى ذلك أن الرأي في ذاته ينقسم إلى مهم و غير مهم ، فمن الآراء ما يحتمل المجاملة ، و منها ما لا يحتمل ، فمن كان لديه مسكة من عقل عرف أين يفصل برأيه و أين يحتفظ به لنفسه ، و لو تأملت حال هؤلاء الذين يتبجحون بسرعة إنفاذ الرأي لرأيت أن جُل آرائهم لا تنصب إلا حول سفاسف الأمور و توافه الأحداث ، فيما لا يجلب منفعة و لا يدفع مضرة

و مما يُستأنس ذكره في هذا المقام أن رجلا قال لمعاوية: ما رأيت أنذل منك ، فرد معاوية: النذل من واجه الرجال بهذا... في الحقيقة رأي لا يصدر إلا من حقير ، و جواب لا يأتي إلا من أمير ، و تأمل أخي الكريم جواب معاوية رضي الله عنه حيث أنه لم يدفع هذا الاتهام أو ينفيه ، و إنما لقن ذلك الرجل درسا في مفهوم النذالة ، فعرفه أن النذالة الحقيقية إنما تكون بمواجهة الرجال بهذه الصورة التي تفتقر إلى أدنى أدبيات و أبجديات الخطاب الإنساني و الاجتماعي ، و لاحظ أيضا أنه قال: الرجال و لو يقل الأمراء ، لأنه من جهل أقدار الناس و مقاماتها فهو بحقيقة نفسه أجهل

و مما يروى أيضا أن أحد الوعاظ أتى الوليد بن عبد الملك فقال له: يا أمير المؤمنين سأعظك عظة فيها غلظة فاحتملها ، فقال الوليد: كلا .. إن الله أمر من هو خير منك بإلانة القول لمن هو شر مني ، قال لموسى إذ أمره بالذهاب إلى فرعون: فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى

و لو تأملت معي أخي القارئ أحوال هؤلاء السُذج لو جدت كَمَّ الخير الكثير و الحظ الوفير الذي فوتوه على أنفسهم بسب أنهم وضعوا ألسنتهم في كل مكان و زمان ، فما غنموا في الدنيا و لا سلموا في الآخرة ، فمسألة أن تجعل لسانك مِغرافا لقلبك فما ذلك إلا البله بعينه ، والحمق بذاته، و في ذلك يقول أبو العتاهية

و إذا حللت عن اللسان عقاله .... ألقاك في قيل عليك و قال

و هل سمي العقل عقلا إلا لأنه يعقل على اللسان ؟ فما فائدة العقل إذا كان لللسان مطلق الحرية في تصوير عُجَرَ القلب و بُجَرَهُ ؟

و لا يسعني إلا أن أختم بقول زهير

و من لم يصانع في أمور كثيرة .... يُضرس بأنياب و يوطؤ بمنسم



Tuesday, October 26, 2010

وجهة نظر


جاء في كتاب "المنصف للسارق و المسروق منه في إظهار سرقات أبي الطيب المتنبي" لمؤلفه إبن وكيع المتوفى سنة 393 هجرية

يقول المتنبي:

من خَصَّ بالذمِ الفراقَ فإنني        من لا يرى في الدهرِ شيئا يُحمَدُ

يقول إبن وكيع:

هذه مبالغة مستحيلة ، لأن الدهر فيه العافية و الشباب و الثراء و كله محمود ، و الإنصاف قول إبن المعتز:

الدهر فيه مساءة و مسرة          فجزاء دهرك أن يُذم و يُحمدا

في حين أن رأيي الشخصي هو الآتي:

الامتعاض من الدهر حالة نفسية بحتة ، و لا يشترط أن تُعزى إلى أي من الأسباب الدنيوية ، فليس الفقر و السقم من دواعي التذمر من الحياة و حسب ، و إنما قد يكون الغنى و طول السلامة  أدعى إلى هذا التذمر ، و مصداق ذلك قول أبي تمام في الميمية: 

سئمت تكاليف الحياة و من يعش                ثمانين حولا لا أبا لك يسأم

أي بمجرد أن يمتد عُمُر الإنسان بهذا القدر من السنين فهو بحد ذاته دافع إلى التململ و الرغبة في التحول
هذا من جانب ، أما من جانب آخر فقد يصيب الإنسان صائب يحمله على مذمة الدهر بأسره ، و كأنه لم ينعم فيه و لم يهنأ ، لشدة ما أصابه و جسامة ما نزل به ، و خير مثال على ذلك مريم عليها السلام عندما أجاءها المخاض إلى جذع النخلة فقالت: يا ليتني مت قبل هذا و كنت نسيا منسيا ، لأن جل تفكيرها في تلك اللحظة انصب حول شرفها الذي بات مهددا لولا أن العناية الإلهية كانت قد كفلت لها عفتها و كرامتها

إن التعامل مع البيت بهذه الصورة من المعادلة الحسابية هو تعامل سطحي و غير صحيح ، و إن كانت فكرة المؤلف حقيقة في ذاتها ، إلا أننا نقول: أن لكل مقام مقال ، و لا أعتقد أن مقام المتنبي في تلك الساعة كان يسمح بما ذهب إليه إبن المعتز ، تماما كما جاء في الحديث الصحيح: أنه في الآخرة يُؤتى بأكثر أهل الأرض نعيما في الدنيا ، فَيُغمس غمسة واحدة في النار ثم يُسأل: هل رأيت نعيما ؟ فيجيب: ما رأيت نعيما قط ، فقد يحصل لأهل الأرض ما يحصل لأهل الآخرة من يأس و قنوط ، لهول ما حل بهم ، مع فارق التشبيه و المقارنة  

لذلك أرى أن المؤلف ما وفق إلى نقد هذا البيت للمتنبي ، بل أن البيت قد قام على ركن شديد و رمى إلى مراد بعيد ، و مقارنة إبن وكيع بيت المتنبي مع بيت إبن المعتز مقارنة لا تصح ، لأن البيتين سارا في مسارين مختلفين ، وانضويا على معنيين متابينين ، أما بيت المتنبي فيصور قسوة الدهر و مرارته ، في حين أن بيت إبن المعتز دعوة إلى الرضا و السكون ، و يبقى الحَكَمُ في النهاية هو الحالة النفسية لكلا الشاعرين كما سبق و بينت

Wednesday, September 29, 2010

قفا نبك

إن القارئ لمعلقة امرئ القيس يشعر بها و كأنها نُظمت على ريق لم يُبلع و نفس لم يُقطع ، فكانت حرية بأن تُكتب على جبهة الدهر و حقيقة أن تُعلق في كعبة الفخر ، فلم يزل ينظم اللآلئ و يُقرِّط الآذان و يسحر العقول و يخلب القلوب إلى أن ختم رحيق قريضه في بيت جال به رونق الحس و تجلى به بديع الوصف

يقول

كأن السباع فيه غرقى عشية ... بأرجائه القُصوى أنابيشُ عُنصُلِ


أي أن ذلك المطر الشديد المذكور آنفا في القصيدة و الذي هطل بغزارة على أماكن متفرقة من شبه جزيرة العرب فاقتلع الأشجار و هدم البيوت و روع الوعول ، نرى أنه حتى الحيوانات القوية المفترسة لم تسلم منه ، فإذا هو يُغرقها و يقضي عليها. فالشاعر في هذا البيت رسم صورة فناء هذه الحيوانات بأسلوب رائق و لفظ شائق ، عندما شبه السباع بالعُنصل و هو بصل بري ينبت تحت الأرض و لا يظهرعلى السطح منه سوى رأسه ، فتلطخ رؤوس هذه السباع بالطين و الماء الكدر حين غرقت بسيول هذا المطر أشبه بأصول هذا البصل البري


راقني جدا هذا الوصف الرائع وشدني ، لأنني بت أرى الناس من حولي على نفس الصورة وذات الهيئة ، بعدما غرقوا بسيول الأوبئة و الأمراض النفسية ، وانحطوا عن المكارم و سفلوا عن المروءة ، و توارت معانيهم تحت الثرى ، فالناس اليوم غرقى في مستنقع الرفث و الدنس ، رؤوسها التي ظلت طافية على السطح مُلطخة بالوحل و الطين ، و إذا نبشت هذه الرؤوس كشفت لك عن عقول ملوثة الفكر مسمومة الفهم ، و لذلك أصبح سوقها سهلا و ما عاد طوعها ممتنعا ، فكل من تمكن من السير على الأقدام أمكنه و بكل بساطة أن يطأها وطء النعال ، و يتركها مسلوبة القرار معدومة الخيار لا تجيد سوى التبعية و الانقياد ، بعدما ضلت سواء السبيل.. حيث لا تفاضل في منافذ الخلاص.. و إنما الغرق أكثر و أكثر في دركات التخبط و الظلام ... فوسط هذه الأرض الموحشة لا أراني أملك سوى أن أبكي و أستبكي على أطلال معانٍ بائدة و أخلاق سلف دارسة عفا رسمها واندثر أثرها



Tuesday, September 14, 2010

من أخبار الطفيليين

يقول الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة و السلام: ألا إنني نهيتكم عن زيارة القبور ، ألا فزوروها. أو كما قال صلى الله عليه و سلم

هذا الحديث ما يدفعني حقيقة إلى التردد على بعض المقابر الفكرية بين الفينة و الأخرى ، أجول بين الأضرحة ، و أنبش العقول عن قناعات مهترئة ، و أفكار بالية ، تراكمت و تعفنت في أدمغة أصحابها ، حتى باتت رائحتها مُنتنة و مؤذية

أقصد بالمقابر هنا مدونات الملحدين من العرب ، و ضع أخي القارئ ألف خط تحت كلمة العرب ، فما يعنيني من هذا الموضوع ليس الإلحاد ذاته ، و إنما إلحاد العرب على وجه الخصوص ، فملحدي العرب هم محور هذا الموضوع ، و عموده و مداره

أقسم بالله العلي العظيم أنني عندما أسمع إنسان عربي يتكلم بالإلحاد تنتابني حالة غثيان ، و يغتالني دوار شديد في الرأس ، و ما أن يشرع هذا الملحد العربي بتبرير إلحاده بالمنطق ، و تعليله بالعقل حتى تشتد عندني هذه الحالة ، و أفقد التركيز في كلامه تماما ، و كأن المتنبي في ذلك الموقف العصيب يهمس في أذني قائلا 

إنا لفي زمان جيل سواسية           شر على الحر من سقم على بدن


وما تزال كلمة السقم تتردد في سمعي ، و تنخر في عقلي ، حتى أتسربل بهذا السقم من مفرق رأسي إلى أخمص قدمي ، في حين أن ذلك الملحد العربي لا يزال ماضيا في حديث العقل و المنطق ، فما أشعر إلا و أنني وشيك على أن أتقيأ في وجهه ، لشديد من أصابني من قرف و مرض ، لعلي أستعيد بهذا القيئ الذي خرج فلم يجد له وجهة إلا وجه هذا المُتَملحِد العربي الماثل أمامي ، أجزاءا من روحي التي فقدتها تحت وطأة ذلك الكلام الغث السقيم الساقط ... تماما كما يقول أبناء العم سام

It makes me feel SICK

في حين أنني عندما أسمع الغرب يتكلم بالإلحاد ، و ينفي وجود الخالق ، فلا تظهر علي أيا من تلك الأعراض !! و إنما ببساطة شديدة أمضي لشأني و أنا أقول : "لكم دينكم و لي دين" بالإضافة إلى أمر بسيط آخر ، ألا و هو قوله تعالى: حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ

أحدث نفسي في هذه الآية الكريمة ... أتفكر في معانيها ، و أتأمل مبانيها ، فتبرز أمامي مجموعة أسئلة ، كسؤال .. إلى من يُعزى الفضل في زخرفة الأرض و تزيينها ؟ أليس الغرب ؟ ما هو سهم العرب من هذا البناء و التشييد ؟؟ يأتي الجواب: بالتأكيد صفر ، ثم أقول: و ظن أهلها أنهم قادرون عليها ، ما هذا الظن الذي وَلّد تلك القدرة ؟ أليس العلم ؟؟ إذن من هم أهل الأرض الحقيقيون؟؟ بالتأكيد هم الغرب ... أرباب العلم و أصحابه ، أما نحن العرب فإننا نسكن هذه الأرض كسائر الوحوش و الهوام ، ليس لنا يد بكل ما يجري حولنا ، بل و الله لو رفع عنا الغرب أسباب التكنولوجيا لأعادونا للشاة و البعير ، بل لو غيروا مسار قمر صناعي ، لاضطرونا إلى البراري و الصحاري ، فكل هذه الثورة العلمية المتفجرة حولنا نصيبنا منها نصيب المفلس


تخيل معي أخي الكريم وسط هذه الصورة القاتمة ، البائسة ، اليائسة ، المقفرة ، الموحشة ، يطل عليك أحد الأعراب قائلا ليس للكون إله !!! فتقول له: ويحك ! من قال هذا الكلام ؟ يرد عليك: دارون ... تقول: و ما دارون ؟! فيرد عليك بضحكة خفيفة ، ألا تعرف دارون ؟ ما أجهلك ! فتتطامن أنت أمام اسم هذا العالم الكبير ، و تطلب من صاحبك الملحد العربي أن يمن عليك ببعض ما  عنده من علم ، لعل و عسى تسترد عقلك المسلوب ، أو تزيل الغشاوة عن عينيك ، فيقول لك حسنا حسنا سأبين لك بعض الحقائق ، و إن كنت أعلم مسبقا أنك لن تستطيع التحرر من قيود العقيدة و الدين كما استطعت أنا ، فنحن في الخلق أنواء ، و لسنا في الفهم سواء، ثم يهم في سرد المعلومات ، و فك كُنه المجهولات ، و هو ما ينفك يقول: قرأت في كتاب كذا ، و دخلت على موقع كذا ، و اليوتيوب الفلاني، و المقال العلاني ... فما تلبث خيبة الأمل أن تتسلل إلى نفسك من جديد ، و يخبو بصيص النجاة الذي لاح لك لوهلة من عيني هذا الأعرابي اللتان كانتا تقدحان ثقة و كبرياء و هو يذكر اسم دارون ، لتعرف أنه ما صاحب دارون في حل و ترحاله ، و لا شاركه مختبره و أبحاثه ، و لا شاطره ملاحظاته و استنتاجاته ، و لا سابقه إلى أفكاره و نظرياته ، و إنما ظفر من دارون باسمه ، و أنس منه برسمه ، فنسف العابد و المعبود ، بكتاب مقروء ، و يوتيوب مرئي و مسموع ؟؟

بالله عليكم هل يوجد بين الأمم أمة أحط من هذه ؟ أو في تاريخ الخليقة خلق أتفه من هذا ؟ قبحكم الله حتى الكفر عجزتم عن تصنيعه محليا ؟ و الله إن العرب في جاهليتها لأكرم منكم نفسا ، و أجل عنكم عقلا ، على الأقل كان الكافر يصنع صنمه بيديه ومن ثم يسجد له

يا جماعة افهموا عني رحمكم الله ... الغرب إن هلك فسيهلك عن بينة ، و إن ضل فإنما ضل عن علم ، أين أنت أيها العربي الفقير المسكين المستعبد من نظامك و مجتمعك قبل أن تكون مستعبد من خالقك .. أين أنت من دارون و غير دارون ، تطرق باب الحرية في السماء ، و باب حريتك على الأرض موصد في وجهك ؟ أي منطق هذا الذي يطلب من عقلي أن يرقى لأسباب السماء فيناقش هل يوجد إله أم لا ، في حين أن عقلي على الأرض لا يستطيع أن يحاور أو يطالب بأبسط الحقوق الإنسانية ؟؟

عرفتم الآن لم تنتابني تلك الحالة مع الملحد العربي و لا أشعر بشئ منها مع الملحد الغربي؟

إن مثل الملاحدة العرب و مثل الملاحدة الغرب عندي  كمثل ذلك الطفيلي الذي أبصر عشرة من الزنادقة جُمعوا و سُيروا إلى المأمون في البصرة ، فقال الطفيلي: و الله ماجتمع هؤلاء إلا لوليمة ، فدخل وسطهم ، و أخذوا جميعا إلى المأمون ، فأخذ يدعوهم بأسمائهم واحدا واحدا ، و يأمر بضرب رقابهم ، حتى وصل إلى الطفيلي ، فقال للحرس: ما هذا ؟ قالوا: و الله لا ندري ، غير أنا وجدناه مع القوم فجئنا به. فقال له المأمون ما قصتك ؟ قال: امرأتي علي طالق إن كنت أعرف من أحوالهم شيئا ، و إنما أنا رجل طفيلي رأيتهم مجتمعين فظننتهم ذاهبين لدعوة. فضحك المأمون و خلى سبيلهم

أسأل الله عز وجل أن يغفر لملحدي العرب تطفلهم على ملحدي الغرب ، و يتجاوز عنهم كما تجاوز المأمون عن ذلك الطفيلي ، الذي لا يعرف من الدنيا إلا الاتباع و الانقياد

و لا يسعني الآن إلا أن أختم بهذه الكلمات الرائعة للمنفلوطي رحمه الله مخاطبا بها أبناء جيله من المتأثرين ... يقول: رأيتم العلماء في أوروبا يشتغلون بكماليات العلوم بين أمم قد فرغت من ضرورياتها ، فاشتغلتم بها مثلهم ، في أمة لا يزال سوادها الأعظم في حاجة إلى معرفة حروف الهجاء. رأيتم الفلاسفة فيها ينشرون فلسفة الكفر بين شعوب ملحدة لهل من عقولها و آدابها ما يغنيها بعض الغناء عن إيمانها ، فانشغلتم بنشرها بين أمة ضعيفة ساذجة لا يغنيها عن إيمانها شيئ ، إن كان هناك ما يُغني عنه





Saturday, August 21, 2010

البصمة الوراثية


ما من كتاب أُلِّف ، أو مُجلد صُنِّف ، أو كلام رُصِّف ، أو مقالة خُطَّتْ ، أو فكرة بُثَّت ، إلا و هي تعبر عن صاحبها ، و تحكي ماضِيَهُ و حاضِرَهُ ، و تُصوِّر نشأته و منبته ، و ترسم شخصه و ملامحه ، فعجبا عجبت لمن يقول ، انقد الفكر و لا تنقد الشخص ، فأنت بالفكرة غني لا بصاحبها مَعْنِيُّ ، بالله عليكم ما هذا الهراء ؟ هل أقول هي كلمة حق أريد بها باطل ؟ أم أنها ضلالة قائل ، و جهالة جاهل ؟ فلا كتاب مهما عظم أو حَقُرْ ، و لا مقال مهما صَغُرَ أو كَبُرْ ، إلا و عليه بصمة وراثية ، تشير إلى كاتبه ، وتدلل على صاحبه ، فتنشر أخباره ، و تذيع أسراره ، و تسبر أغواره ، كاشفةً القناعَ عن خبايا نفسه ، هاتكةً الستارَ إلى خفايا عهده ، لتستبين للفَطِنِ حقيقته ، و تتجلى للكَيِّسِ سريرتُهُ 

و خذوا عني رحمكم الله هذا المثال الصادق الناطق ، فلو قلنا : أن امرأة تكتب عن الرجل بأسلوب شنيع فظيع ، تترفع عنه و تُنفر منه ، و تصوره على أنه ذلك الشيطان الرجيم ، من جانبه سَلِمْ ، و من فارقه غَنِمْ ، فإذا أخذ المجتمع بكلام هذه المرأة على أنه فكرٌ مجردٌ ، و الفكرُ لا يقابل إلا بالفكر كما يقولون ، و ضُيعّت الأوقات في نقاشها ، واستُهّلت المناسبات في حوارها بغية العدول عن رأيها و الرجوع في قولها ، ثم اتضح فيما بعد أن كل ما تتفوه به إنما هو نتيجة تجربة فاشلة تعرضت لها ، و محنة قاسية مرت بها ، كان سببها الاختيار الخاطئ ، و الاندفاع الطائش ، فما هو ذنب المجتمع أن يتحمل مجموعة عقد نفسية ، و رواسب اجتماعية لا ناقة له بها و لاجمل ؟؟

أعتقد أن أي إنسان كائنا من كان قبل المُضي في جداله ، أو الأخذ منه أو الرد ، يجب أن يُمرر على جهاز الأشعة السينية ، لضمان خلوه من الأمراض النفسية ، و الآفات الاجتماعية ، و التأكد من سلامة عقله ، و أنه ما تعرض في حياته لقمع أو اضطهاد ، بل نشأ نشأة سليمة مستقيمة ، فيكون كل ما يقوله إنما نابع من اعتقاد راسخ ، و تجربة صادقة ، مجردة من كل التأثيرات و الانفعالات ، و خير مثال على ذلك الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة و السلام ، فإن الله عز وجل قبل أن يُحمِّله الرسالة أعده إعدادا محكما متقنا استغرق أربعين عاما ، استوفى فيها محمود الخصال ، و كمال الأخلاق ، و تمام المروءة و الرجولة ، ثم قدمه للناس على أنه نبي الأمة ، بعدما عرفوه بالصادق الأمين ، فكان صدقه و أمانته سابقا على فكره و دعوته ، فلم يجعل الله لطاعن فيه علة ، و لا لآخذ عليه مأخذ

أرى أن كل إنسان في فكره رسول ، فكان واجبا على كل مجتمع أن يُحَكِّمَ عقله حتى يَميزَ النبي من المتنبي ... و رحم الله من قال: أن خطأ الطبيب يُدفن في الأرض ، و خطأ المهندس يقع على الأرض ، في حين أن خطأ المفكر يمشي على الأرض



Sunday, August 8, 2010

عملة نادرة

أكثر ما يعشق الرجل في المرأة جمالها، وأشد ما يروقه غُنجها و دلالها ، فتراه يهيم في محاسن وجهها و تضيع كلماته في وصف حُسن قدها و خرطها، وهو غير ملوم في ذلك إذ أن في وجه المرأة الجميل ضروب من الحسن الغريب والتركيب العجيب



ولكن التجربة أثبتت أن في المرأة جانبا هو أكثر سحرا و أشد جاذبية، ألا و هو العقل، فمن المعروف أن العقل عملة نادرة عند النساء، ومما يميز عقل المرأة عن عقل الرجل أنه إن وُجِد فتراه قد مُزج بشيئ من المكر و شيب بقليل من الكيد، فتغدو حادة الذكاء متوقدة الذهن، وإذا كانت المرأة كذلك صارت أهلا للمشورة،

ولا أكاد أجد في المرأة لذة كتلك التي تأتي بمشاورتها والأخذ برأيها، و أول ما تكون بوادر العقل في اللسان، فتراك تنتشي بطيب حديثها مع عذوبة ألفاظها و غزارة معانيها، ومن النساء من يُستملح سبابها و يُستلطف ردها إذا ما كدتها أو تواغدت عليها



ومما يروى أن بعد وفاة جميل دخلت بثينة على الخليفة عبد الملك بن مروان فقال لها: والله لا نجد فيك ما كان يقوله جميل، فردت عليه: لقد كان يرنو إلي بعينين ليستا في رأسك



أتخيل كيف يمكن أن يكون رد امرأة من هذا العصر إذا ما طُعنت في جمالها مع طول لسانها و قِصَرِ فهمها؟

Wednesday, August 4, 2010

الغــايـــة

اللهم إني عبدك ، إبن عبدك ، إبن أمتك ، ناصيتي بيدك ، ماض في حكمك ، عدل في قضاؤك ، أسألك بكل اسم هو لك ، سميت به  نفسك ، أو أنزلته في كتابك ، أو علمته أحدا من خلقك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن الكريم ربيعَ قلبي

كيف ... و قد خفي علي بديع نظمه ، و حلاوة لفظه؟

و نورَ صدري ... كيف و قد حُجِبَ عني نورُ إعجازه ، و براعةُ قصه و إخباره ؟

و جلاءَ حزني ... كيف و قد قصر عنه فهمي ، و ضل فيه رشدي ؟

و ذهابَ همي ... كيف و قد تشابهت عندي صنوف الكلام ، فصرت كمن استوى عنده النور و الظلام ؟

نعم أنا جاهل بلغتي التي شرفها الله بهذا القرآن العظيم ، حكمي بها حكم الأعجمي ، أقول بالإعجاز و لا أعيه ، و أقر بالإبداع و لا أستحليه

إلا أنني عازم على أن أجد طريقي ، و أبلغ غايتي ، مع العلمِ أن رحلتيَ طويلة ، و سَفْري بعيد ، و زادي لن يبلغني ، إلا إذا استزدت علما و أدبا ، فهذا زاد لا بد لي منه ، و لا سبيل لي عنه ، كي أفوز بكتاب الله ، علي أن أطلق لنفسي عنانها لتجول في رياض الأدب  و تنهل من موارد البيان ، و تَقِفَ على طُرُقِ العَرَبِ و مذاهبها في تصريف وجوه الكلام ، فمن قصد البحر استقل السواقيا

و هذا هو دأبي و ديدني إلى أن يتجلى ليَ إعجازهُ ، فأنفذُ إلى مخزونهِ ، و أخلصُ إلى سرهِ و مكنونهِ ، فيَبينَ فَضلهُ ، و يَنبَلجَ نورهُ ،  فأراهُ كالياقوتَةِ في واسِطةِ العِقد