Wednesday, September 29, 2010

قفا نبك

إن القارئ لمعلقة امرئ القيس يشعر بها و كأنها نُظمت على ريق لم يُبلع و نفس لم يُقطع ، فكانت حرية بأن تُكتب على جبهة الدهر و حقيقة أن تُعلق في كعبة الفخر ، فلم يزل ينظم اللآلئ و يُقرِّط الآذان و يسحر العقول و يخلب القلوب إلى أن ختم رحيق قريضه في بيت جال به رونق الحس و تجلى به بديع الوصف

يقول

كأن السباع فيه غرقى عشية ... بأرجائه القُصوى أنابيشُ عُنصُلِ


أي أن ذلك المطر الشديد المذكور آنفا في القصيدة و الذي هطل بغزارة على أماكن متفرقة من شبه جزيرة العرب فاقتلع الأشجار و هدم البيوت و روع الوعول ، نرى أنه حتى الحيوانات القوية المفترسة لم تسلم منه ، فإذا هو يُغرقها و يقضي عليها. فالشاعر في هذا البيت رسم صورة فناء هذه الحيوانات بأسلوب رائق و لفظ شائق ، عندما شبه السباع بالعُنصل و هو بصل بري ينبت تحت الأرض و لا يظهرعلى السطح منه سوى رأسه ، فتلطخ رؤوس هذه السباع بالطين و الماء الكدر حين غرقت بسيول هذا المطر أشبه بأصول هذا البصل البري


راقني جدا هذا الوصف الرائع وشدني ، لأنني بت أرى الناس من حولي على نفس الصورة وذات الهيئة ، بعدما غرقوا بسيول الأوبئة و الأمراض النفسية ، وانحطوا عن المكارم و سفلوا عن المروءة ، و توارت معانيهم تحت الثرى ، فالناس اليوم غرقى في مستنقع الرفث و الدنس ، رؤوسها التي ظلت طافية على السطح مُلطخة بالوحل و الطين ، و إذا نبشت هذه الرؤوس كشفت لك عن عقول ملوثة الفكر مسمومة الفهم ، و لذلك أصبح سوقها سهلا و ما عاد طوعها ممتنعا ، فكل من تمكن من السير على الأقدام أمكنه و بكل بساطة أن يطأها وطء النعال ، و يتركها مسلوبة القرار معدومة الخيار لا تجيد سوى التبعية و الانقياد ، بعدما ضلت سواء السبيل.. حيث لا تفاضل في منافذ الخلاص.. و إنما الغرق أكثر و أكثر في دركات التخبط و الظلام ... فوسط هذه الأرض الموحشة لا أراني أملك سوى أن أبكي و أستبكي على أطلال معانٍ بائدة و أخلاق سلف دارسة عفا رسمها واندثر أثرها



Tuesday, September 14, 2010

من أخبار الطفيليين

يقول الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة و السلام: ألا إنني نهيتكم عن زيارة القبور ، ألا فزوروها. أو كما قال صلى الله عليه و سلم

هذا الحديث ما يدفعني حقيقة إلى التردد على بعض المقابر الفكرية بين الفينة و الأخرى ، أجول بين الأضرحة ، و أنبش العقول عن قناعات مهترئة ، و أفكار بالية ، تراكمت و تعفنت في أدمغة أصحابها ، حتى باتت رائحتها مُنتنة و مؤذية

أقصد بالمقابر هنا مدونات الملحدين من العرب ، و ضع أخي القارئ ألف خط تحت كلمة العرب ، فما يعنيني من هذا الموضوع ليس الإلحاد ذاته ، و إنما إلحاد العرب على وجه الخصوص ، فملحدي العرب هم محور هذا الموضوع ، و عموده و مداره

أقسم بالله العلي العظيم أنني عندما أسمع إنسان عربي يتكلم بالإلحاد تنتابني حالة غثيان ، و يغتالني دوار شديد في الرأس ، و ما أن يشرع هذا الملحد العربي بتبرير إلحاده بالمنطق ، و تعليله بالعقل حتى تشتد عندني هذه الحالة ، و أفقد التركيز في كلامه تماما ، و كأن المتنبي في ذلك الموقف العصيب يهمس في أذني قائلا 

إنا لفي زمان جيل سواسية           شر على الحر من سقم على بدن


وما تزال كلمة السقم تتردد في سمعي ، و تنخر في عقلي ، حتى أتسربل بهذا السقم من مفرق رأسي إلى أخمص قدمي ، في حين أن ذلك الملحد العربي لا يزال ماضيا في حديث العقل و المنطق ، فما أشعر إلا و أنني وشيك على أن أتقيأ في وجهه ، لشديد من أصابني من قرف و مرض ، لعلي أستعيد بهذا القيئ الذي خرج فلم يجد له وجهة إلا وجه هذا المُتَملحِد العربي الماثل أمامي ، أجزاءا من روحي التي فقدتها تحت وطأة ذلك الكلام الغث السقيم الساقط ... تماما كما يقول أبناء العم سام

It makes me feel SICK

في حين أنني عندما أسمع الغرب يتكلم بالإلحاد ، و ينفي وجود الخالق ، فلا تظهر علي أيا من تلك الأعراض !! و إنما ببساطة شديدة أمضي لشأني و أنا أقول : "لكم دينكم و لي دين" بالإضافة إلى أمر بسيط آخر ، ألا و هو قوله تعالى: حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ

أحدث نفسي في هذه الآية الكريمة ... أتفكر في معانيها ، و أتأمل مبانيها ، فتبرز أمامي مجموعة أسئلة ، كسؤال .. إلى من يُعزى الفضل في زخرفة الأرض و تزيينها ؟ أليس الغرب ؟ ما هو سهم العرب من هذا البناء و التشييد ؟؟ يأتي الجواب: بالتأكيد صفر ، ثم أقول: و ظن أهلها أنهم قادرون عليها ، ما هذا الظن الذي وَلّد تلك القدرة ؟ أليس العلم ؟؟ إذن من هم أهل الأرض الحقيقيون؟؟ بالتأكيد هم الغرب ... أرباب العلم و أصحابه ، أما نحن العرب فإننا نسكن هذه الأرض كسائر الوحوش و الهوام ، ليس لنا يد بكل ما يجري حولنا ، بل و الله لو رفع عنا الغرب أسباب التكنولوجيا لأعادونا للشاة و البعير ، بل لو غيروا مسار قمر صناعي ، لاضطرونا إلى البراري و الصحاري ، فكل هذه الثورة العلمية المتفجرة حولنا نصيبنا منها نصيب المفلس


تخيل معي أخي الكريم وسط هذه الصورة القاتمة ، البائسة ، اليائسة ، المقفرة ، الموحشة ، يطل عليك أحد الأعراب قائلا ليس للكون إله !!! فتقول له: ويحك ! من قال هذا الكلام ؟ يرد عليك: دارون ... تقول: و ما دارون ؟! فيرد عليك بضحكة خفيفة ، ألا تعرف دارون ؟ ما أجهلك ! فتتطامن أنت أمام اسم هذا العالم الكبير ، و تطلب من صاحبك الملحد العربي أن يمن عليك ببعض ما  عنده من علم ، لعل و عسى تسترد عقلك المسلوب ، أو تزيل الغشاوة عن عينيك ، فيقول لك حسنا حسنا سأبين لك بعض الحقائق ، و إن كنت أعلم مسبقا أنك لن تستطيع التحرر من قيود العقيدة و الدين كما استطعت أنا ، فنحن في الخلق أنواء ، و لسنا في الفهم سواء، ثم يهم في سرد المعلومات ، و فك كُنه المجهولات ، و هو ما ينفك يقول: قرأت في كتاب كذا ، و دخلت على موقع كذا ، و اليوتيوب الفلاني، و المقال العلاني ... فما تلبث خيبة الأمل أن تتسلل إلى نفسك من جديد ، و يخبو بصيص النجاة الذي لاح لك لوهلة من عيني هذا الأعرابي اللتان كانتا تقدحان ثقة و كبرياء و هو يذكر اسم دارون ، لتعرف أنه ما صاحب دارون في حل و ترحاله ، و لا شاركه مختبره و أبحاثه ، و لا شاطره ملاحظاته و استنتاجاته ، و لا سابقه إلى أفكاره و نظرياته ، و إنما ظفر من دارون باسمه ، و أنس منه برسمه ، فنسف العابد و المعبود ، بكتاب مقروء ، و يوتيوب مرئي و مسموع ؟؟

بالله عليكم هل يوجد بين الأمم أمة أحط من هذه ؟ أو في تاريخ الخليقة خلق أتفه من هذا ؟ قبحكم الله حتى الكفر عجزتم عن تصنيعه محليا ؟ و الله إن العرب في جاهليتها لأكرم منكم نفسا ، و أجل عنكم عقلا ، على الأقل كان الكافر يصنع صنمه بيديه ومن ثم يسجد له

يا جماعة افهموا عني رحمكم الله ... الغرب إن هلك فسيهلك عن بينة ، و إن ضل فإنما ضل عن علم ، أين أنت أيها العربي الفقير المسكين المستعبد من نظامك و مجتمعك قبل أن تكون مستعبد من خالقك .. أين أنت من دارون و غير دارون ، تطرق باب الحرية في السماء ، و باب حريتك على الأرض موصد في وجهك ؟ أي منطق هذا الذي يطلب من عقلي أن يرقى لأسباب السماء فيناقش هل يوجد إله أم لا ، في حين أن عقلي على الأرض لا يستطيع أن يحاور أو يطالب بأبسط الحقوق الإنسانية ؟؟

عرفتم الآن لم تنتابني تلك الحالة مع الملحد العربي و لا أشعر بشئ منها مع الملحد الغربي؟

إن مثل الملاحدة العرب و مثل الملاحدة الغرب عندي  كمثل ذلك الطفيلي الذي أبصر عشرة من الزنادقة جُمعوا و سُيروا إلى المأمون في البصرة ، فقال الطفيلي: و الله ماجتمع هؤلاء إلا لوليمة ، فدخل وسطهم ، و أخذوا جميعا إلى المأمون ، فأخذ يدعوهم بأسمائهم واحدا واحدا ، و يأمر بضرب رقابهم ، حتى وصل إلى الطفيلي ، فقال للحرس: ما هذا ؟ قالوا: و الله لا ندري ، غير أنا وجدناه مع القوم فجئنا به. فقال له المأمون ما قصتك ؟ قال: امرأتي علي طالق إن كنت أعرف من أحوالهم شيئا ، و إنما أنا رجل طفيلي رأيتهم مجتمعين فظننتهم ذاهبين لدعوة. فضحك المأمون و خلى سبيلهم

أسأل الله عز وجل أن يغفر لملحدي العرب تطفلهم على ملحدي الغرب ، و يتجاوز عنهم كما تجاوز المأمون عن ذلك الطفيلي ، الذي لا يعرف من الدنيا إلا الاتباع و الانقياد

و لا يسعني الآن إلا أن أختم بهذه الكلمات الرائعة للمنفلوطي رحمه الله مخاطبا بها أبناء جيله من المتأثرين ... يقول: رأيتم العلماء في أوروبا يشتغلون بكماليات العلوم بين أمم قد فرغت من ضرورياتها ، فاشتغلتم بها مثلهم ، في أمة لا يزال سوادها الأعظم في حاجة إلى معرفة حروف الهجاء. رأيتم الفلاسفة فيها ينشرون فلسفة الكفر بين شعوب ملحدة لهل من عقولها و آدابها ما يغنيها بعض الغناء عن إيمانها ، فانشغلتم بنشرها بين أمة ضعيفة ساذجة لا يغنيها عن إيمانها شيئ ، إن كان هناك ما يُغني عنه