إن القارئ لمعلقة امرئ القيس يشعر بها و كأنها نُظمت على ريق لم يُبلع و نفس لم يُقطع ، فكانت حرية بأن تُكتب على جبهة الدهر و حقيقة أن تُعلق في كعبة الفخر ، فلم يزل ينظم اللآلئ و يُقرِّط الآذان و يسحر العقول و يخلب القلوب إلى أن ختم رحيق قريضه في بيت جال به رونق الحس و تجلى به بديع الوصف
يقول
كأن السباع فيه غرقى عشية ... بأرجائه القُصوى أنابيشُ عُنصُلِ
أي أن ذلك المطر الشديد المذكور آنفا في القصيدة و الذي هطل بغزارة على أماكن متفرقة من شبه جزيرة العرب فاقتلع الأشجار و هدم البيوت و روع الوعول ، نرى أنه حتى الحيوانات القوية المفترسة لم تسلم منه ، فإذا هو يُغرقها و يقضي عليها. فالشاعر في هذا البيت رسم صورة فناء هذه الحيوانات بأسلوب رائق و لفظ شائق ، عندما شبه السباع بالعُنصل و هو بصل بري ينبت تحت الأرض و لا يظهرعلى السطح منه سوى رأسه ، فتلطخ رؤوس هذه السباع بالطين و الماء الكدر حين غرقت بسيول هذا المطر أشبه بأصول هذا البصل البري
راقني جدا هذا الوصف الرائع وشدني ، لأنني بت أرى الناس من حولي على نفس الصورة وذات الهيئة ، بعدما غرقوا بسيول الأوبئة و الأمراض النفسية ، وانحطوا عن المكارم و سفلوا عن المروءة ، و توارت معانيهم تحت الثرى ، فالناس اليوم غرقى في مستنقع الرفث و الدنس ، رؤوسها التي ظلت طافية على السطح مُلطخة بالوحل و الطين ، و إذا نبشت هذه الرؤوس كشفت لك عن عقول ملوثة الفكر مسمومة الفهم ، و لذلك أصبح سوقها سهلا و ما عاد طوعها ممتنعا ، فكل من تمكن من السير على الأقدام أمكنه و بكل بساطة أن يطأها وطء النعال ، و يتركها مسلوبة القرار معدومة الخيار لا تجيد سوى التبعية و الانقياد ، بعدما ضلت سواء السبيل.. حيث لا تفاضل في منافذ الخلاص.. و إنما الغرق أكثر و أكثر في دركات التخبط و الظلام ... فوسط هذه الأرض الموحشة لا أراني أملك سوى أن أبكي و أستبكي على أطلال معانٍ بائدة و أخلاق سلف دارسة عفا رسمها واندثر أثرها
ملاحظة
ReplyDeleteالموضوع يعود لعام 2006 و هو منقول عن مدونتي القديمة .. حيث كانت محاولة لتوظيف أبيات المعلقات و إسقاطها على الواقع المعاصر ، بما يبعث في البيت حياة جديدة و رؤية مختلفة ، و ليس الفضل في هذه المحاولة البسيطة إلا بفضل قوة تلك اللغة و عنفوانها ، و بعدها التصويري العميق
يا سلام
ReplyDeleteأبدعت في المقارنة بين الحالين
والمعلقات من أثمن ما بقي لنا لنفخر به
وعن مدونتك القديمة فعلا منذ أيام وأنا أتجول في الشبكة وقعت عليها وشككت بأنها لك لأنها تحمل نفس الاسم ونفس ملف التعريف،
أستفهم عن سبب استبدالها، في الحقيقة خسارة أن تضيع المواضيع القيمة التي تحويها
معلقة رائعة سبق لي وأن قرأت بعضاً منها منذ سنوات مضت ..
ReplyDeleteموضوع شيق ورائع
كل التقدير
BookMark
ReplyDeleteابتعدت عن التدوين لفترة ، و لما شعرت برغبة شديدة تدفعني نحو الكتابة توجهت إلى مدونتي تلك لأكتشف أن اسم التسجيل و كلمة المرور غدتا من منسياتي ، حاولت عدة مرات لكن دون جدوى .. و عندما اشتدت لدي الرغبة أكثر لم أجد بدا من إنشاء مدونة جديدة ، و ها أنا ذا من جديد :)
سُعدت لمرورك و متابعتك
Engineer A
ReplyDeleteأشكر لك إطراءك اللطيف
دمت بصحة و عافية