Tuesday, October 26, 2010

وجهة نظر


جاء في كتاب "المنصف للسارق و المسروق منه في إظهار سرقات أبي الطيب المتنبي" لمؤلفه إبن وكيع المتوفى سنة 393 هجرية

يقول المتنبي:

من خَصَّ بالذمِ الفراقَ فإنني        من لا يرى في الدهرِ شيئا يُحمَدُ

يقول إبن وكيع:

هذه مبالغة مستحيلة ، لأن الدهر فيه العافية و الشباب و الثراء و كله محمود ، و الإنصاف قول إبن المعتز:

الدهر فيه مساءة و مسرة          فجزاء دهرك أن يُذم و يُحمدا

في حين أن رأيي الشخصي هو الآتي:

الامتعاض من الدهر حالة نفسية بحتة ، و لا يشترط أن تُعزى إلى أي من الأسباب الدنيوية ، فليس الفقر و السقم من دواعي التذمر من الحياة و حسب ، و إنما قد يكون الغنى و طول السلامة  أدعى إلى هذا التذمر ، و مصداق ذلك قول أبي تمام في الميمية: 

سئمت تكاليف الحياة و من يعش                ثمانين حولا لا أبا لك يسأم

أي بمجرد أن يمتد عُمُر الإنسان بهذا القدر من السنين فهو بحد ذاته دافع إلى التململ و الرغبة في التحول
هذا من جانب ، أما من جانب آخر فقد يصيب الإنسان صائب يحمله على مذمة الدهر بأسره ، و كأنه لم ينعم فيه و لم يهنأ ، لشدة ما أصابه و جسامة ما نزل به ، و خير مثال على ذلك مريم عليها السلام عندما أجاءها المخاض إلى جذع النخلة فقالت: يا ليتني مت قبل هذا و كنت نسيا منسيا ، لأن جل تفكيرها في تلك اللحظة انصب حول شرفها الذي بات مهددا لولا أن العناية الإلهية كانت قد كفلت لها عفتها و كرامتها

إن التعامل مع البيت بهذه الصورة من المعادلة الحسابية هو تعامل سطحي و غير صحيح ، و إن كانت فكرة المؤلف حقيقة في ذاتها ، إلا أننا نقول: أن لكل مقام مقال ، و لا أعتقد أن مقام المتنبي في تلك الساعة كان يسمح بما ذهب إليه إبن المعتز ، تماما كما جاء في الحديث الصحيح: أنه في الآخرة يُؤتى بأكثر أهل الأرض نعيما في الدنيا ، فَيُغمس غمسة واحدة في النار ثم يُسأل: هل رأيت نعيما ؟ فيجيب: ما رأيت نعيما قط ، فقد يحصل لأهل الأرض ما يحصل لأهل الآخرة من يأس و قنوط ، لهول ما حل بهم ، مع فارق التشبيه و المقارنة  

لذلك أرى أن المؤلف ما وفق إلى نقد هذا البيت للمتنبي ، بل أن البيت قد قام على ركن شديد و رمى إلى مراد بعيد ، و مقارنة إبن وكيع بيت المتنبي مع بيت إبن المعتز مقارنة لا تصح ، لأن البيتين سارا في مسارين مختلفين ، وانضويا على معنيين متابينين ، أما بيت المتنبي فيصور قسوة الدهر و مرارته ، في حين أن بيت إبن المعتز دعوة إلى الرضا و السكون ، و يبقى الحَكَمُ في النهاية هو الحالة النفسية لكلا الشاعرين كما سبق و بينت

6 comments:

  1. اتفق معك بالرأي .. والمتنبي معروف بشعره القوي والبليغ

    دمت بخير

    ReplyDelete
  2. رأي سديد
    أحيانا يكون التحامل على شخص معين هو دافع النقد وليس النقد لأجل النقد،
    والله أعلم إن كان ابن وكيع متحاملا على المتنبي
    كما تفضلت على حسب نفسية الشاعر يخرج البيت،
    وليس لأحد أن يحدد ويقارن مع اختلاف المواقف والنفسيات
    وحديث أهل النعيم حين يغمسون في النار فينسون كل ما كان من نعيم الدنيا .. تشبيه موفق

    سئمت تكاليف الحياة.. أظنها معلقة زهير بن أبي سلمى؟

    يعطيك العافية

    ReplyDelete
  3. Engineer A

    ، فعلا بلاغة شعره و قوته هي ما أثارت الحساد حوله

    تحياتي لك

    ReplyDelete
  4. BookMark

    يبدو أنك قرأت الموضوع قراءة واعية ، أشكر لك هذا الاهتمام ، أما عن البيت فلا يمكن أن يكون إلا لزهير الذي أحفظ معلقته عن ظهر قلب و لا أعلم كيف بدر مني هذا الخطأ ، الظاهر أني كنت منشغلا بأبيات لأبي تمام

    تحياتي لك

    ReplyDelete
  5. ماشاء الله
    مدونة قيمة

    وبالنسبة للبيت
    من خَصَّ بالذمِ الفراقَ فإنني من لا يرى في الدهرِ شيئا يُحمَدُ

    وقت الفراق يصبح كل شئ في الدنيا رخيصا
    ولا يرى في الدهر شيئا يحمد

    لا يستلزم هذا أن تكون الدنيا في عينه هكذا
    ولكن هذا الوقت حمله من الألم ماجعله يرى الدهر اسودا

    ReplyDelete
  6. مـي

    أشكر لك هذه الزيارة اللطيفة

    أتمنى ألا تكون الأخيرة

    ReplyDelete