Tuesday, January 11, 2011

ضحايا التصفيق

على الرغم من بساطة هذه الحركة وعَفَوِيتها ، و أعني بالحركة هنا "التصفيق" إلا أنها كانت سببا في هلاك الكثيرين عبر التاريخ السحيق ، و أعجب حقيقة عندما يقع الخطباء و أصحاب الندوات و المحافل أو حتى الإعلاميون المخضرمون في شرك التصفيق هذا ، و إن كانت الجريمة مقسومة بين المُصَفِّقِ و المُصَفَّقِ له ، إلا أن الوزر الأكبر من مغبة التصفيق يتحمله الخطيب أو المتكلم ، و ذلك أن الجماهير الغفيرة و الجموع الوفيرة يصعب تقييمها ، إذ يندس في صفوفها العديد من عامة الناس و بلههم و دهمائهم ، الأمر الذي يجعل من مهمة الخطيب مهمة أكبر و أصعب ، إذ يتحتم عليه أن يتجاوب مع الحضور تماما كما المغني مع الجمهور ، مع الأخذ بعين الاعتبار الفارق البسيط بينهما ، إذ يُشرع للمغني على خشبة المسرح أن يقوم بقفزات هوائية و حركات بهلوانية يستطيع من خلالها أن يلبيَ اندفاع الجمهور وحماسه ، في حين أن الخطيب لا يستطيع أن يقوم بما يقوم به المغني حتى يتفاعل مع تصفيق حضوره ، الأمر الذي يضطره إلى زيادة الجرعة الكلامية و رفع وتيرة الخطاب و الانتقال إلى المفردات الأكثر حدة ، بما يخلق جو من الانسجام و التناغم بين عدد التصفيقات و سيل الكلمات ، و هلم جرا على مبدأ زيد يا يزيد

و مع ازدياد حرارة التصفيق يدخل الخطيب في حالة من اللاوعي ، و عند هذه اللحظة يُفقد العقل القائد في هذا المقام ، فيسود الهرج و المرج ، و يحل الخبط الخلط ، إذ أن الجماهير مغيبة مسبقا ، و الخطيب تم تغييبه لاحقا ، و عند هذه اللحظة أيضا يضطرب الميزان عند الخطيب ، فتعلو كفة الجماهير فوق المصلحة الشخصية للخطيب بدرجة كبيرة ، و هذا الاختلال الصارخ في موازين المصالح بين الفرد و المجتمع هو الذي جمد المجتمعات الإسلامية و العربية عقودا طويلة ، فإما فرد يسخر الناس و يستعبدهم لمصالحه الشخصية ، و إما فرد يقدم نفسه قربانا للناس ليلبيَ نشوة ساعة و يغدوَ من بعدها نسيا منسيا ، و الذي يشكك في هذا الكلام فليرجع إلى التاريخ ليرى كم من رجال علَوَا بخطاباتهم أسنان الرماح و من ثَمَّ ذهبوا أدراج الرياح ، فخسرهم الناس و خسروا أنفسهم وذلك هو الخسران المبين

وليعلم القارئ الكريم أن التصفيق في الشريعة في أحسن أحواله محمول على الكراهة ، بل أن البعض ذهب إلى تحريمه ، و التسفيه من شأن التصفيق واضح بنص القرآن الكريم ، إذ يقول سبحانه و تعالى واصفا المشركين : "و ما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء و تصدية" ، و التصفيق من خوارم المروءة ، و قد دل على هذا المعنى الحديث الشريف "من رابه شيئ في صلاته فليسبح و إنما التصفيق للنساء" و كان السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين إذا استحسنوا شيئا سبحوا الله أو كبروه ، و لم يكن من عادتهم التسبيح أو التكبير الجماعي ، مما يؤكد على أن أدنى درجات الحماسة و الغوغائية و الفوضى مرفوضة و مردودة في هذا الدين الحنيف

الذي يقرأ القرآن الكريم قراءة واعية ، و يعرض السيرة النبوية عرضا موضوعيا ، صدقوني لن يجد للحماسة مكان أو يعثر لها على تُرجمان ، بل سيجد أن الهدوء و السكينة و التخطيط و التكتيك بكل أنواعه وأشكاله هو الذي كان سائدا على تلك الحقبة الذهبية من حياة الأمة الإسلامية ، و ما ضلت الأمة و ما تراجعت و ما سفلت و ما انحطت إلا بعدما طغت الشعارات و علت الخطابات واصطف الناس في صفوف المظاهرات

و إن كنت ألتمس العذر لهذه الظواهر السلبية في بعض الأنظمة العربية جراء ما تتعرض له شعوبها من قمع واضطهاد ، فلا ضير أن ينفجر خطيب هنا أو هناك بغية التنفيس أو التعبير عن مدى الألم الذي يُلم بها ، أما في بلد كالكويت فلا أجد لأي من تلك الممارسات غير الناضجة عذرا أو مبررا ، فالكويت دولة مؤسسات .. تنعم بمجلس تشريعي يمارس دورا رقابيا على كل أجهزة ووزارات ورجالات الدولة ، أضف إلى ذلك الوسائل و القنوات الإعلامية الحرة ، ناهيك عن العلاقة الأبوية التي تربط الحاكم بشعبه ، مما يسهل وصول كلمة الشعب إلى أميره ، و في حال أخفق البرلمان بأداء دوره الرقابي أو التشريعي فإن من يتحمل هذا الفشل هو الشعب نفسه ، و في حديث "كيفما تكونوا يول عليكم" خير ختام و أبلغ شاهد على هذا الكلام ، و إن كان الحديث ضعيفا إلا أن معناه يبقى حقيقيا قويا

6 comments:

  1. BookMark

    الله يسلمج ... :)

    ولو أني كنت بحاجة منك إلى تعليق أكثر تفصيلا ، لأن هذه المرة الموضوع يعنني لدرجة بالغة

    ReplyDelete
  2. والله ياخوي كان بخاطري أعلق
    الموضوع ذو شجون
    وماعرفت أعلق على شنو ولا شنو

    سياسة التصفيق وارتفاع صراخ المتكلم مع تزايد وتيرة التصفيق لا تخفى على أحد،
    ربعنا من يحسون إن الوضع مشتعل والناس معاهم وتتابع .. ينتفخون ويزيدون بالصراخ
    والنتيجة مثل الي نشوف ..
    نعرف أن الحل ليس بالمظاهرات، ولا بأخذ الناس بالصيحة،
    الحكمة مطلوبة .. والتكتيك الهادي المتأني سلاح فعال

    ويسلم قلمك مرة ثانية
    :)

    ReplyDelete
  3. الحين أقولج الله يسلمج من قلب و تسلم ايدج .. و الصراحة طلبي هذا لم يأت إلا لأني مؤمن أن السواد الأعظم لا يتقبل هكذا طرح ، و لا أتصور أن هناك الكثيرين ممن يمكنهم أن يعوا هذا الموضوع و إن كان في ظاهره بسيط .. و لكن من الجميل و المطمئن أن يصادف قلمي أمثالك

    لك مني أرق تحية

    ReplyDelete
  4. لا فض فوك..كلام في غاية من الحكمة
    أتمنى من يتصدر ذلك المنبر أيا كان (خطيب ,,سياسي واعظ)..
    رجل يعرف قيمة الكلمة ووقعها أكثر من حدة النبرة..ولكن عندي قناعة أن أغلب من يجهد نفسه ليصل صوته لم يكن جهده من فراغ..


    لا أحب التصفيق أو التصفير و إن اشتد حماسي ..دائما ما أفضل التكبير..اذا كان المكان مخصص ..تدوينة محيرة جدا..

    أختكم ..بنت ابو عثمان

    ReplyDelete
  5. هــديل

    على الرغم من اختلافي معك في مدونتك الكريمة إلا أنني أقدر لك هذا الاتفاق و أعتز بنظرتك الموضوعية

    أسعدني جدا تواجدك

    ReplyDelete